من مبتكر نظام ساهر

من كان يصدق أن عاشق سرعة وبطل سباقات راليات، سيخرج إلى العالم بفكرة رصد المخالفات المرورية بالكاميرات، والتي تسمى سعوديا بنظام "ساهر"، ليرحم الناس من سوءات مجنونته. هذا ما صنعه الهولندي موريس جاتسونويد، مدهشا العالم قبل 50 عاما بسياراته السريعة، وعلى النقيض، بكاميراته التي لا ترأف بأحد.
وكشفت شركته العالمية التي ورّثها لعائلته في 1998لـ"الوطن"، عن جوانب من تاريخ ذلك الهولندي وشخصيته التي ألقت بظلالها على اختراعه.
وبالحيلة استطاع جاتسو أن يأتي بفكرته تلك وهو ينصب كاميرات وأسلاكا في حلبة سباقه ليقيس سرعته إذا مر بالمنعطفات بهدف المفاخرة بها وكسر حاجزها، لكنها سرعان ما تحولت إلى مصدر عيش ضخ له مليارات الدولارات مع السنين.
وأصابت كاميرات جاتسو العالم بالصداع وهي تراقب زلات سيارات السكان وتعاقبهم بالدليل.
واليوم صارت تلك الكاميرات بحق.. مراقبة الدنيا وشاغلة الناس من أميركا إلى الصين، ولا تستثنى السعودية. فلا تكاد صحف عشرات الدول تخلو من مواجهة يومية بين مواطن وفلاش معاقب.
الناقمون على كاميرات رصد مخالفات المرور، المسماة سعوديا بـ"ساهر"
قد لا يعرفون أنها بنت فكرة لأشهر سائقي الراليات في العالم. بل سيضعون أيديهم على رؤوسهم حين يعرفون أنها بدأت بغير ما انتهت إليه أخيرا في أيدي رجال المرور. إذ أرادها مبتكرها أن تكون أداة تخبره عن سرعته وبدقة حين ينعطف في الحلبة بهدف زيادتها، ولكنها تحولت بعد سنوات إلى مشروع مغاير لما بدأه، بعد أن رمى باحترافه للراليات للأبد، واتجه لبناء شركة تنتج صائد مخالفات إلكترونياً هو الأول في فكرته، وسرعان ما صار مقصدا لدول العالم وهي تصطف على أبوابه للحصول على مسكن لحرارة حوادث الطرق.
يقول التاريخ اليوم، إن فكرة نصب الكاميرات عند إشارات المرور وعلى الأرصفة، وتحميلها في السيارات واستثمارها في رصد مخالفات السير، تعود إلى مهووس بالسرعة ومهندس سيارات هولندي اسمه: موريس جاتسونويد. وهذا العبقري كتبوا كثيرا عنه كنجم راليات عالمي، وكسائق مراوغ عشق السرعة حتى أفلسته. ولكن لم يظهر كمؤسس لشركته "gatsometer" وكاميرات رصد السرعة منذ 52 عاما، إلا في سطر شارد هنا أو هناك، وكأنها كانت له سوأة أراد محبوه أن يغطوها له.
ولعل شركته انتبهت لذلك، فاتجهت إلى حفظ حقه عليها بعد وفاته، وأفردت له صفحة رئيسية على موقعها الإلكتروني سردت فيها إنجازاته وبعض صوره، وحين سألتها "الوطن" عن المزيد، قال مسؤول الموقع: استفيدوا من هذه المعلومات، وسأعطيكم ماتريدونه.
بداية متهور
بدأ جاتسو، المولود في 14 فبراير1911 حياته مولعا بركوب الدراجات النارية. ثم كبر وعشق السيارة. تعلم هندستها وتصاميمها وأدخل على بعضها تعديلات سميت به لاحقا. تعاقد مع شركات سيارات عالمية، وتحول بعدها في طريق آخر إلى منافسات الراليات. ومن أكثر من حلبة بدأ الناس يهتفون باسمه معجبين وهو يحصد الانتصارات داخل هولندا وخارجها. حتى صار اسمه لامعا بفوز حصده في مونت كارلو في 1953.
لكن جاتسو لم يستمر في ذلك الاتجاه، بل سرعان ما غامر بطموحه واستثمر عبقريته وهو يستهدف كسر حاجز السرعة، بفكرة لم تكن لتزور أحدا قبله. اشترى كاميرا لا تجيد غير السواد والبياض، وربطها برادار ثم زرعها في زوايا المضمار الذي كان يتدرب فيه على سباقات الراليات ليحسن سرعته.
كان ذلك عام 1958. ويومها لم يكن يتوقع هذا الهولندي أن يتحول ابتكاره من محفز، إلى أكبر مناهض للسرعة في العالم، ويصير بعد 50 عاما ذراعا لقانون يمنع الناس من ممارسة هوايتهم في تحويل الطرق السريعة إلى مضمار سباقات. وصار هذا المدفون في مقابر عام 1998، وجهة، من حيث لم يدر، لدعوات ساخطة من ملايين المخالفين لقانون المرور حول العالم، بعد أن سحبت فلاشات كاميراته مليارات الدولارات كغرامات لردعهم.
وعن اكتشافه يقول جاتسو: لديك السرعة القصوى التي ستحتاجها عند الضرورة، ولكن لسوء الحظ فإن هنالك العديد من السائقين يتجاوزون ما هو مسموح لهم بمراحل. هناك العديد من الفقراء المنتشرين على جنبات الطريق، وأحيانا أجد أطفالا يقطعون الطريق أمامي، وهؤلاء يجب أن ننتبه إليهم لكي لا يصيروا قتلى تحت عجلات السيارات. ينبغي لنا بحزم فرض حد أقصى للسرعة، ومراقبة تطبيقها والمحاسبة على تجاوزها. وقال: أنا الآن مع فكرة وجود عداد السرعة، رغم أنني سائق راليات، ومع جميع أنواع الأجهزة الأخرى سمها ما شئت، المهم أن نحافظ على البشر.
مالئ الدنيا وشاغل الناس
في 1960 بدأت كاميرات السينما تستخدم فعليا في رصد السرعة، واستمرت إلى أن زاحمتها الكاميرات الرقمية في 1997، فصارت هي الممسكة بزمام الصور ومعها بدأ التطوير المتسارع لذلك الاكتشاف. وفي مطلع القرن الواحد والعشرين لاحظ الناس في أوروبا وأميركا أن رجل المرور الذي كان يقف على الشوارع وبيده دفتر المخالفات بدأ يختفي تدريجيا من أمام الإشارات وعلى الطرقات وتظهر مكانه تلك الكاميرات التي وصفت في بداية أمرها بالتجسسية.
ولم تسكت مجتمعاتهم يومها، وحتى اللحظة، عن تلك التقنية واتجهوا لرفع القضايا ومناهضة النظام المروري الحديث. بل إن بعضهم فتح مواقع لمواجهة الكاميرات المنتشرة على الطرق انتهت بحرقها وتكسيرها. ويبدو ذلك واضحا في أميركا حيث أوقفت بعض الولايات تطبيق النظام بعد رفع مواطنيها قضايا تدعي انتهاكه للحرية الشخصية وهو يصورهم في سياراتهم. ورغم ذلك استمرت الكاميرات منصوبة في الشوارع، فإحصائيات الحوادث تقل بتسارع بعد تطبيقها.
واليوم وبعد رحيل ذلك الهولندي، صار الشارع العالمي يحمل تجاهه انطباعين متناقضين. فحين تسأل المواطنين الأوروبيين عنه سيقولون إنه كان من أهم سائقي الراليات في العالم بعد أن وصل بالسرعة حدا لم يصله من كان قبله. وعلى النقيض ستجد إدارات المرور حول العالم ومعها المنظمات الباحثة عن حد لقتلى السيارات، تمجده صباح مساء ولكن على كاميراته المنصوبة في عشرات الدول ودورها في تقييد السرعة. وله اليوم مواقع معجبين تستعرض صور نجاحاته في السرعة ومع سياراته، وله أيضاً مواقع ساخطة على ابتكاره الذي در لشركته مليارات الدولارات من جيوبهم، رغم أن قليلين يعرفون أنه وراءها.
كل شيء ممكن
ترك "جاتسو" في كاميراته شفرة أعجزت أعداءها عن فكها حتى اللحظة. الكل يحاول أن يبتكر ما يعمي به عدسات المرور في الطرقات، لكن الأخبار تقول إن أحدا لم ينجح. ورغم أن جاتسو اشتهر في أوساط منافسيه ومحبيه، بجملة يقولها دوما ضاحكا "كل شيء ممكن!"، إلا أنه حين مات عن عمر 87 عاما لم يسر إلى من حوله عن: كيف يتغلب الناس على ابتكاره؟.
ويبدو أن فكرة تلك الكاميرات، نبعت أصلا من شخصية جاتسو وألاعيبه. إذ يحكون عنه أنه كان في بدايته يتخذ حيلا ذكية للفوز بالسباقات. فكم مرة أرادت لجان التحكيم سحب الجائزة منه إلا أنها لا تجد مدخلا قانونيا عليه فيفوز. وعلى الأسلوب ذاته جاء ابتكاره، فمن كان يتوقع يوما أن رجال المرور سيخلون طرقهم لصالح صناديق معلقة فيها أجهزة إلكترونية تثبت فعاليتها أكثر منهم؟ واليوم يحاول كثيرون في شرق الأرض وغربها ابتكار حيل للتغلب على كاميراته، إلا أنه ما زال ينتصر وحتى بعد موته.
فمحلياً، حاول المواطنون التحايل على الكاميرات بتغطية لوحات السيارات باستخدام مواد لا تسمح بالتقاط صورة واضحة لها، واتجه فريق آخر إلى جلب تقنيات تكشف مواقع تلك العدسات، ولكن مع كل ذلك باءت محاولاتهم بالفشل بحسب تأكيدات عدد من مسؤولي المرور في المملكة، ففي يونيو 2009 قال مدير مرور الرياض العقيد عبدالرحمن المقبل إنهم في مشروع "ساهر" يجرون اختبارات مستمرة للنظام مع الأخذ في الاعتبار أي معلومات أو تطورات بهذا الخصوص.
أما دوليا فالصور والأخبار التي تبثها صحف أوروبية وأميركية عن حرق وتكسير كاميرات رصد مخالفات المرور، تنبئ عن فشل ذريع في أخذ فلاشاتها بالحيلة بدل الحرب. فماذا كان يقصد جاتسو بـ"كل شيء ممكن"؟
رحلة كاميرات المرور
•1965: ظهرت كاميرا الضوء الأحمر في السوق، كنواة للمستخدمة حاليا في العالم، وكانت تعمل باستخدام الأنابيب التي كانت تمتد عبر الطريق. 1958: ولد جهاز قياس السرعة باستخدام الكاميرا على يد جاتسو.
•1966-1980: استخدم النظام المبتكر في توقيت السباقات العالمية، كالسباحة. واستثمرت الكاميرات في بطولة أوروبا للسباحة في هولندا، وسمي التوقيت يومها باسم جاتسو محققا نجاحا كبيرا.
•1976: صدر الابتكار إلى جنوب أفريقيا كثاني دولة بعد هولندا تطبق النظام.
•1971: بدأت الكاميرات تباع في السوق العالمية وووجهت يومها بالتخوف والترحيب.
•1980: جهزت سيارات بكاميرات محمولة لرصد المخالفات المرورية.
•1997: إنتاج أول كاميرا رقمية للرصد بدلا من السابقات التي كانت تستخدم تقنية سينمائية.
•2001: أوروبا تبدأ فعليا وبتوسع في استثمار النظام للحد من حوادث السيارات.
•2004: صار بإمكان الكاميرات التقاط صورة واضحة لوجه السائق لمواجهته بها في المحاكم المرورية.
•2010: السعودية تجلب الكاميرات إلى شوارع عدد من مدنها بهدف وضع حد للمخالفات المرورية اليومية، تحت مسمى "نظام ساهر"
هذه الرسالة كُتبت ضمن التصنيف قروبات عامه. الأوسمة: , .