بين يدي الطَّبعة الثَّانية من السِّيرة الذَّاتية التي كتبها الشَّاعر والأديب الشِّيعي عادل اللباد لتوثيق طرف من ذكرياته، ويقع الكتاب في (464) صفحة من القطع الكبير، وقد صدرت هذه الطَّبعة عام 1431 عن دار ليلى دون تحديد مكانها. وأهدى اللباد كتابه إلى أوائل معتنقي مذهب التَّشيع، وإلى علماء الشِّيعة، وإلى (الشُّهداء) بسبب اعتناقهم المذهب من فجر الإسلام حتى انتفاضة (1400) الباسلة كما يصفها، ولم ينس الثَّكالى ورفاق الدَّرب والسُّجناء، كما شمل الإهداء الذين تاجروا بآمال البلاد عسى أن تكون لهم ذكرى نافعة حتى لو كانوا غير مؤمنين كما توحي النِّقاط المتتابعة!
وأشار المؤلف إلى الانتقادات والتَّهديدات التي تعرَّض لها حين أعلن عزمه على خوض هذه التَّجربة الجريئة، حتى قيل له: مَنْ أنت حتى تنتقد بلدك وتشوِّه صورتها! والقائل يقصد بالبلد الحركة الرِّسالية حسبما أوضح الكاتب الذي لم يقلقه غضب أبناء طائفته؛ وإنَّما أهمَّه مدى جدوى ما يكتبه للأجيال، ولم يمنعه ذلك من مناداة كلِّ ذي تجربة لتسطيرها عسى أن تنير الطَّريق للسَّائرين على المذهب.
وقد جعل اللباد ذاته محوراً لينقل للآخرين صورة مما حدث لها؛ مستفيداً من تجربته الشَّخصية، ومن بعض النِّقاشات بينه وبين رفقاء العمر، ومن الحوار مع مشايخ الحركة الذين ظلوا أوفياء لها أو انقلبوا عليها لاحقا، بالإضافة إلى مطالعة أدبيات تلك الفترة؛ والرُّجوع إلى بعض مواقع النت. واستغرق التَّأليف بضع سنوات قبل أن يدفع أوراقه إلى المطبعة. والكتاب سرد ماتع مع ما فيه من عبارات قاسية، أو معلومات تبقى على محك التَّثبت، وفيما أعلم فهو غير متاح للبيع في المكتبات، وقد قرأت في مواقع شيعية أنَّه يُباع في بعض مكتبات القطيف، وأشار الباحث المختص بشؤون إيران والشِّيعة الأستاذ عمر الزِّيد في لقاء فضائي إلى وجود نسخة إلكترونية منه في الشَّبكة العنكبوتية.
يبدأ المؤلف حكايته من قريته العوامية، ويطيل الحديث عن بذور تدينه التي ترافقت مع أحداث عام (1400) في المنطقة الشَّرقية، ويرويها بأسى بالغ من منظوره الخاص، وللشِّيعة باع عريض في المآسي واللطميات والأحزان إن باطلاً أو حقا، ثمَّ يمضي في الحديث عن تفاصيل تلك الأيام وما فيها من دروس دينية وتربوية على يد أشياخ المذهب. وقد تحقق له حلمه إبَّان أداء فريضة الحج بملاقاة بعض الوفود الإيرانية والإفادة منها، والمشاركة في مسيرة البراءة التي أبهجته برفع صور الخميني في مكة الطَّاهرة! ومن مبالغاته وصفه المظاهرة بالمليونية، وتحميله قوات الأمن السُّعودى نتائج مظاهرات حجاج إيران عام(1407)، وفي تلك الرِّحلة وما تخللها من اجتماعات انبثقت لديه فكرة الدِّراسة الدِّينية في إيران كأمنية سعى لبلوغها.
ولتحقيق هدفه استعدَّ للسَّفر إلى سوريا في طريق (الهجرة) إلى الجمهورية، وشاء الله أن تفشل رحلته بسبب مخالفة أمنية ارتكبها قائد السَّيارة بالاتفاق معه، وبدلاً من السَّفر عاد أدراجه إلى السِّجن في رحلة أبدع في وصفها مكاناً مكانا، وقد أفاض في ذكر أحواله في السِّجن منذ أن كان انفرادياً إلى أن التحق بمجموعة من معارفه وعاش معهم فترة تربية وتعليم خلف القضبان، وكانت الابتهالات والأدعية الشِّيعية زاده الإيماني خلال هذه الفترة إلى أن أُطلق سراحه. ولنصرة المذهب كوَّن مع بعض أصحابه خلية رباعية تمتهن السَّرقة وتوزع المنشورات، إلى أن ضاقت به الأرض ولج عليه حلمه الحوزوي فقرر السَّفر متحدياً قرار حظر مغادرة البلاد. وبمساعدة من متبرع أعطاه جواز سفره الخاص، وبعد تغيير الصُّورة، وتنسيق مع آخرين في الكويت وسوريا، حزم عادل اللباد حقائبه إلى الكويت برا، وهناك شاهد مناظر لم يألفها في حياته، وبقي أياماً إلى أن طار نحو سوريا، ومكث بجوار القبور والأضرحة، وحدثت له مواقف لم يعتدها، إلى أن جاءت لحظة تحقيق حلمه الكبير، حلم الهجرة إلى بلد الثَّورة، وبر الأمان حيث ديار أبي أحمد كما يسميه بفخر ونشوة. وصار يعزي نفسه بترداد بيت شعر شهير بعد تحريفه ومخالفة قائله: بلادي وإن جارت عليَّ (ذليلة)؛ وأهلي وإن ضنّوا عليَّ (لئام)!
وفي أرض فارس استبان له مع الأيام أنَّ التَّدريب العسكري يسبق طلب العلم في الحوزات، فانضم دون رغبة شديدة منه إلى برنامج تدريب شاق في بستان معدٍّ لهذا الغرض، وكان التَّدريب على مختلف العمليات القتالية، بدءاً من فك الأسلحة وتركيبها، وإطلاق الرَّصاص والقاذفات، والتَّعامل مع المتفجرات، وألعاب الدِّفاع عن النَّفس، وتكتيكات الاقتحام والهروب والاختفاء، وتسلق الجبال والمشي على الظَّهر والتَّناوب على الحراسة، إلى رمي أهداف خشبية تحمل أسماء زعماء العرب. وكانت أناشيد الثَّورة تصب غضبها على حكومات الخليج وتهتف لقيادات طائفية كالمدرسي إخوان والصَّفار، وكلما فتر المتطوعون أطلق بعضهم شعارات وأشعاراً لإشعال فتيل الحماسة، وقد اكتشفوا لاحقاً أنَّ هذه الأناشيد كانت مرتبة لتنشيط المجموعة إن ضعفت أو تعبت.
وتحدَّث الكاتب عن منتدى التَّعذيب داخل المعسكر للتَّذكير بعذاب السُّجناء، كما وصف بامتعاض شديد التَّدريبات القاسية التي تؤديها المجموعة راغمة على يد مدربِّها صالح العجمي الذي يحتقر العرب كثيرا، وكانت هذه التَّدريبات مؤشراً لقياس الطَّاعة والولاء! فمن الارتماء جماعياً في بركة باردة آسنة؛ ونزع الملابس بلا استثناء ورفع ما يستر العورتين عالياً ليراه المدرب! إلى أكل القنافذ والسَّحالي، والتَّسابق إلى صيد أكبر عدد من الذُّباب، وأقبحها وضع ضفدع قذر لزج في الفم وتدويره بين الأشداق ثم تناقله بين باقي المتدربين! وقد كان عامة المتدربين من المتفرغين في سبيل الله، القادمين من بلدان الخليج؛ وأعمارهم تقع بين 12-25 عاما، وروى المؤلف بعض التَّجاوزات الأخلاقية بين بعض صغارهم وكبارهم الملتحفين بدثار واحد.
ومن خلال هذا المعسكر علم انَّه عضو في الحركة الرِّسالية التي تقلد المرجع الشِّيرازي، ولهذه الحركة ثلاثة أجنحة ثورية؛ أولها خاص بالعراق، والثَّاني منظمة الثَّورة الإسلامية بقيادة الشَّيخ حسن الصَّفار، والجناح الثَّالث الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين بقيادة هادي المدرسي، وإلى هذا الفصيل البحريني ينتمي اللباد السُّعودي في إشارة واضحة إلى أنَّ شيعة الخليج يتعاونون فيما بينهم متجاوزين السِّياسة وعلم البلدان. وقد كانت أناشيد المعسكر طافحة بتمجيد هذه الحركة وقادتها، وغرس المدربون في روع أولئك الشَّباب المغرَّر بهم أنَّ الرِّسالي جندي تحت الطَّلب قبل أن يكتشف اللباد وبعض مَنْ معه أنَّ الرِّسالي جندي تحت البَّطانية في قصَّة طريفة أوردها في كتابه. وبإجلال وهيبة سطَّر الجندي الرِّسالي شعوره حين ذهبت فرقتهم لزيارة المرجع الشِّيرازي الذي أوصاهم بعشر وصايا منها إجادة القلم للكتابة، وتمرين اللسان للخطابة، وتكوين مكتبة في كلِّ بيت، وتزويج العزَّاب بمبالغ زهيدة. وبعد حدوث عدد من التَّغيرات داخل إيران أصبحت الشِّعارات تعرج وتخطر على استحياء، وعلى إثر ذلك ونتيجة للاستعلاء الفارسي واحتقار العرب، اضطرت المجموعة للانتقال إلى الهند، حيث قضت هذه الرُّفقة فترة من الزَّمن ذابت فيها بعض المثل والقيم. وفي الهند حكى اللباد قصة المجموعة المصرية المستبصرة التي جاءت تطلب العلم حتى إذا عادت إلى بلادها قبضت عليها السُّلطات المصرية التي كانت بالمرصاد للمدِّ الشِّيعي. ومن الهند سافر المؤلف إلى سوريا لملاقاة أهله بعد طول غياب، وقد عبَّر عن حي السَّيدة زينب في سوريا بأنَّه مكان تعبئة الجماهير، واصطفاء النُّخب للانضمام إلى المعارضين، وهو أيضاً مصدر لتمويل خزائن المعارضة! وشراء أجهزة الفيديو!
وقفل اللباد مرَّة أخرى إلى إيران لطلب العلم في حوزة القائم؛ هذه الحوزة التي تتلمذ فيها (73) رجلاً من شيعة الخليج، وخطَّطوا لإسقاط حكومة البحرين في عملية فاشلة عام (1981). وفي إيران لاحت له معالم دكتاتورية النِّظام الإيراني حين جعلوا قبر الشِّيرازي في قم ممراً تدوسه النِّساء، وصيَّروا قبر شريعتمداري على عتبة دورة مياه عامة في قم! وتبَّدى أمامه حقيقة الخلاف والشِّقاق بين المعارضة الشِّيعية على أموال السُّعوديين وعلى الزَّعامة حتى انقلبوا على بعضهم وعلى مبادئهم، وفي هذا السِّياق اعترف الصَّفار بامتلاك المعارضة رصيداً ضخماً في أوروبا! وقد أحدث له هذا الانقلاب انقلاباً في تفكيره ليتخذ قراره بالعودة لوطنه عام (1413) بعد غياب دام بضع سنوات، وقد أنصف سفارة المملكة في سوريا بحسن تعاملها مقابل صلافة سفارة الجمهورية التي كانت معقد آماله ومنتهى طموحاته.
وفي الكتاب نصٌّ خطير عن الشَّيخ عبد الحميد الخطي قاضي المواريث والأوقاف الذي وجَّه رسالة شفهية لحسن الصَّفار حين عزم على ترك المعارضة والعودة للدَّاخل: "لا تعودوا... والحكومة مالها أمان؛ ولن تعطيكم شيئا!!"، وكان رأي الشَّيخ الخطي أن تظل المعارضة في الخارج للعمل على المطالبة بحقوق الطَّائفة، والضَّغط على الحكومة إعلامياً وسياسيا، وكان هذا الرَّأي هو مبدأ الصَّفار مع مَنْ أصر على المكوث في الخارج؛ حيث يرى أنَّ التَّواصل مع الحكومة جزء من المقاومة مع التزامه بدعم معارضة الخارج! وما أبينَ التَّكامل وتبادل الأدوار لدى القوم.
وفي خضَّم حوارات شباب الشِّيعة مع رموز المعارضة الذين قرروا العودة صرح هؤلاء الرُّموز أنَّهم وضعوا ساسة إيران في صورة خطوات التَّفاوض مع حكومة بلادهم! والكتاب مليء بسجالات تلك المرحلة وأفكارها الصَّريحة تجاه مَنْ استمر معارضا، ونحو مَنْ يراه المؤلف وكثير غيره أنَّهم قاموا بانقلاب على مبادئ الحركة والمعارضة لإرضاء غرور فردي؛ أو لتحقيق مصالح شخصية بحتة؛ خاصَّة أنَّهم لن يغنموا من الحكومة ظفر دجاجة كما قال مرجعهم الشِّيرازي، وقد صار هؤلاء المنقلبون في نظرهم انتهازيين بعد أن كانوا قادة.
والمؤلف صريح في التَّعبير عن البغض الشَّديد للحكومة وجميع مَنْ اتصل بها، ورميهم بأوصاف لاذعة مقذعة، واعتبار ما سرقوه منهم "غنيمة"! وقرر الكاتب الموقف من أي حاكم ليس على مذهب الرَّفض وأنَّه عندهم امتداد ليزيد أو ابن زياد، وهو ما يعني بطلان حكمهم، وانتظار حال مواتية للانتفاضة عليهم. وقد قال غير مرَّة أنَّ مناطقهم واقعة تحت الاحتلال السُّعودي أو احتلال آل خليفة! ومن عجب أنّ شعارات ثورات الشِّيعة تدَّعي الوحدة مع السنَّة مع أنَّها تعترف بالجندية لصالح نظام الخميني الذي يسوم السنَّة والعرب أشدَّ العذاب. وليت أنَّ المخدوعين من أهل السنَّة ينعموا النَّظر في هذا الكتاب الشَّائق ليقفوا على ما وراء دعوات الشِّيعة للمظاهرات والثَّورات التي تُغلَّف بمطالب مشتركة، وتحتها نيران المجوس الملتهبة.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض الخميس 05 من شهرِ ربيع الآخر عام 1432
تعليقات
إرسال تعليق